لذة الكآبة
الألم أكبر دافع للاستمرار!
تخيل أنك تعيش حياةً مثالية منعمًا خاليًا الذهن ومطمئن القلب، هل ستستمر بالسعي؟!
إن نلت كل ما تتمنى وشعرت بكل ما تريد أن تشعر هل تظن أنك ستظل تحارب وتكابد في هذه الحياة؟
كالمرأة ساعة الولادة التي تستمر بالشهيق والزفير لدفع الجنين خارج رحمها وتنتهي من شعور الألم الذي يمزق أحشاءها، كالطالب الذي يستمر في سماع الحصص الفارغة حتى تحين فُسحة الفناء ومن ثم يفرد جناحيه كعصفور تخلص من قبضة المعلم، كالحبيب الذي ينكوي بالأشواق طوال منفاه حتى يعود ويلتقي بمحبوبته، والمريض الذي يسقى أمر العقار كي ينعم برخاء الجسد، الأمل والألم أهم دوافع تجعل المرء يتمسك بالسعي، فإذا أردت أن تجعل الحمار يسير اضربه وإذا أردت أن تجعله يركض فضع له البرسيم على بعد كيلو وتابع لهفة الأمل في عينيه
فالألم الوجه الآخر للحياة، كوقود يدفع محرك المرء منا للتقدم ودونه لن يرفع الإنسان طوبة ولن يحيك رداء ويخيطُ قميصًا
فإذا أردت الموت، فافقد الأمل أو أنعم بالراحة بلا ألم
يمكن تذوق الموت إن لم تتألم لأنك ببساطة لن تشفى، فدائمًا التغيير الذي ينبع من الصدمات هو من يضع حدًا للمعاناة ويمنع تولد الحسرات، إن تصادف ألمًا مفجعًا فلن يدفعك شيء نحو الأفضل.
وإذا نظرنا سنجد العلماء والفلاسفة كانوا يخوضون آلامًا منذ الطفولة والمراهقة جعلت منهم عباقرة، فحينما ترجم وجعهم إلى طاقة واندفاع وجد كل منهم طريق النجاح، لنقل مثلًا دوستويفسكي لم يكن ليغوص في عمق النفس البشرية لو لم يتألم من البشر وتلذعه سمومهم، أو طه حسين لو لم تحرقه قطرة العين وقسوة عائلته والمجتمع لما أتخذ قراره بأن يكون هو طه حسين، وفي الجانب الديني لو لم يصارع الأنبياء ما صارعوه في حياتهم منذ ولادتهم كسجن يوسف ومرض أيوب وموسى لطغيان فرعون ويُتم محمد وإن لم يمروا بالأذى ذلك لما بلغوا قدر الوعي والنضج الذي يحملهم مسؤولية الرسالة وتحمل ما قد يلاقون من عذاب نشر الأديان والمهانة التي سيرونها من أقوامهم لكنهم أثبتوا أنهم كانوا أقوياء بما يكفي ليتمسكوا بالرسالة ويقاوموا الإغراءات المالية والمادية ويستغنوا عن الملذات ويحتملوا النبذ ونظرات الاحتقار واختار الرب المُختار وتنازلوا عن كل شيء فداءً للمولى ليكونوا حنفاء له مخلصين لا يحيدون عن الحق ولو برهة، يجعلك ذلك تعي أن الأمر يتوقف على رد فعلك تجاه الألم، هل سيجعلك تنزوي باكيًا أم ستدرك لماذا جعلتك الحياة تتألم وتفهم الحكمة من وراء كل بلاء ثم تمضي نحو المستقبل؟
فالأحزان دائمًا ترسم خطة لكل منا مجرد أن تمل الحزن تبدأ في صناعة حياة تريدها، مجرد أن تفقد شيئًا عزيزًا تتعلم التخلي، ومجرد أن تذوق الحب تعلم قيمة أن تكون وحيدًا، لكن إن كنت سأضيف محركًا آخر للإنسان فسيكون الحب وهو أحد أبناء الألم ووليد المتاعب، هذا المحرك ضعيف قليلًا لدى الكثيرين حيث لا يقدرون ما يصنع بحب ويتحولون لآلات، لكن له قوة عجيبة لتجعلك تهدم العالم ثم تقيمه، فإن اجتمعوا ثلاثتهم عليك أن توقن بأنك إما ستفنى وتتآكل بسببهم أو تنطلق للنجاح، القرار قرارك والخيار لك وما جعلت إلا لتختار، تحتاج لأن تحكم عقلك بينهم فقط لتربح نفسك، فليس ما نواجهه من صعوبات دائمًا يستحق كم التشاؤم الذي نسقطه عليه فإن للألم لذة، وتلك اللذة تشبع حاجة لدى ممثلي دور الضحية تجعلهم يهوون الاستسلام والإنزواء والعزلة والبكاء على الأطلال ويشكون همهم لكل عابر حتى يظهروا للجميع أنهم يعانون ويستحقون تكريمًا حقيقيًا لمساعيهم في الحياة، بينما آخرون يتألمون ولا يفصحون بل يمضون سبيلهم وينجحون، ليس من شأن العالم معرفة معاناتك لن يكترث أحد ولن يتفهمها أحد، ليس من عكاز تستند عليه لينتشلك من قاع المحيط أو يقيم روحك المعنوية كلما ضعفت، أن تكون هشًا تتغذى على الألم هو بمثابة اختيارك المداومة على المثلجات والسكاكر رغم تسوس أسنانك وارتفاع سكرك، هو عملية انتحار بطيئة يحدثها عقلك الباطن ليخدعك أنك من المعذبين في الأرض وأنه لا يمكن لأحد أن يمر بما مررت به، لا! أنت لم تمر بالكثير هناك دائمًا شخصٌ يعاني أكثر منك ولسنا في منافسة لمن هو حياته أشد مرارةً، عليك أن تنهض سريعًا القاع ليس المستراح هو بداية بطيئة للموت ونهاية سريعة للحياة، ورد عن فاروق المسلمين عمر بن الخطاب أنه قال: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم" وقيل النعم.
وبالنظر لهذه العبارة فإن انعدام الشعور بالألم مستحيل ومنع الآلام من الوقوع أشد استحالة وكل النعم مهددة في أي حين بالزوال الأمر كله يعتمد عليك أن تخشوشن وتتعلم أن تستقوى بنفسك ويكون درعك ذاتك لتتصدى للأوجاع بل وتأخذها كحافز لتقفز للأمام، ففي مشفى الأمراض العقلية يتعرض المجانين إلى عملية الكهرباء حينما يصعب إيقافهم عن النواح وتهدئتهم كنوع من الصدمة العصبية للمخ أن يكف عن الهرج والمرج ويتخذ الألم وسيلة للتعلم ويستمر في المضي، أو كالطفل الصغير الذي يبكي بلا توقف مُلح على شيء يؤذي به نفسه فيتلقى كف قوي يسترد به وعيه بأن الشيء الذي يريده لن يكون له، وكالمريض الذي تعالج جراحه بالكيّ وتعقم فإن الألم الناجم عن الكيّ لن يكون أصعب من ألم بقاء الجراح تنزف، هكذا تتعامل معنا الحياة فالألم ضرورة لخلق التغيير والتقدم خطوة، في الألم تهذيبٌ وإصلاح ولكن لا يعقل ذلك كثير، فالطفل الذي لم يعاقب لن يتأدب، والعدو الذي لم يذق قسوة السيف لن يتحشم، والمرفه الذي يخض في مشاق الحياة لن يدرك مسؤوليته، فقط حاول صناعة حياة تليق بك من خلال أن تكف عن الشكوى أو استمراء الألم كمدمن المخدرات واتخذ قرارك بترك ما يؤذيك إلى ما يرضيك واختيار المقاومة، اختيار السعي وجعل الهدف نصب عينيك، أنت كمحارب يسير على صراط رفيق أسفله نار وعن يمينه وشماله نيران وخلفه جرحى وأمامه عدوه لا مفر عنده سوى الاستمرار والمقاومة لذا خذ قوتك من نفسك لن ينصفك أحد ولن تكف الحياة عن إصدار الكفوف ولن يتحول العلقم إلى عسل، ستظل تتألم حتى تتعلم فلا تطل البكاء وسِر للدرب المُراد وأرفع شعارك المكابدة حتى الممات، فقال المولى عز وجل: "ولقد خلقنا الإنسان في كبد" لم يقل خلقناه لنذيقه النعم والملذات دنيانا ليست جنان بل هي حلقة مفرغة من العذاب والابتلاءات والصدمات التي تكشف معادن الناس ومدى مقاومتهم أيهم تحلى بالصبر وتمسك بالعمل وأيهم نال الرقود واختار الجزع؟!
الدوائر الكبرى رسمت وخطها قلمُ القدر لكن الدوائر الصغيرة بيدك إصلاحها، واقعك هو نطاقك فأبدأ الآن!
كما قال الشاعر العظيم إيليا أبو ماضي في قصيدته كن بلسمًا:
..
"كُن بَلسَماً إِن صارَ دَهرُكَ أَرقَما
وَحَلاوَةً إِن صارَ غَيرُكَ عَلقَما
إِنَّ الحَياةَ حَبَتكَ كُلَّ كُنوزِها
لا تَبخَلَنَّ عَلى الحَياةِ بِبَعضِ ما
أَحسِن وَإِن لَم تُجزَ حَتّى بِالثَنا
أَيَّ الجَزاءِ الغَيثُ يَبغي إِن هَمى
مَن ذا يُكافِئُ زَهرَةً فَوّاحَةً
أَو مَن يُثيبُ البُلبُلَ المُتَرَنِّما
عُدَّ الكِرامَ المُحسِنينَ وَقِسهُمُ
بِهِما تَجِد هَذَينِ مِنهُم أَكرَما
يا صاحِ خُذ عِلمَ المَحَبَّةِ عَنهُما
إِنّي وَجَدتُ الحُبَّ عَلَماً قَيِّما
لَو لَم تَفُح هَذي وَهَذا ما شَدا
عاشَت مُذَمَّمَةً وَعاشَ مُذَمَّما
فَاِعمَل لِإِسعادِ السِوى وَهَنائِهِم
إِن شِئتَ تُسعَدَ في الحَياةِ وَتَنعُما
أَيقِظ شُعورَكَ بِالمَحَبَّةِ إِن غَفا
لَولا الشُعورُ الناسُ كانوا كَالدُمى
أَحبِب فَيَغدو الكوخُ كَوناً نَيِّراً
وَاِبغُض فَيُمسي الكَونُ سِجناً مُظلِما
ما الكَأسُ لَولا الخَمرُ غَيرُ زُجاجَةٍ
وَالمَرءُ لَولا الحُبُّ إِلّا أَعظُما
كَرِهَ الدُجى فَاِسوَدَّ إِلّا شُبهُهُ
بَقِيَت لِتَضحَكَ مِنهُ كَيفَ تَجَهَّما
لَو تَعشَقُ البَيداءُ أَصبَحَ رَملُها
زَهراً وَصارَ سَرابُها الخَدّاعُ ما
لَو لَم يَكُن في الأَرضِ إِلّا مِبغِضٌ
لَتَبَرَّمَت بِوُجودِهِ وَتَبَرَّما"
..
وأستشهد بقول بوذا الذي جسد معنى المعاناة وحتميتها بدقة:
"كُل شيءٍ مؤلم، كُل شيءٍ زائل."
..
وقال أيضًا:
"أنتج السأم مقامرين أكثر مما أنتجه الجشع، وسكيرين أكثر من العطش، بل ربما ما يوازي ما أنتجه اليأس من حالات انتحار."
..
"'إن رأى من يتمتع بسعادة ما سعادة أكبر منها فليترك السعادة الأقل لينال السعادة الأكبر."
وتغنت كوكب الشرق بكلمات أحمد شوقي قائلة:
"وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا"
فأنتزع حلمك من الحياة غصبا، ولا تنتظر أن ينتهي الألم وأن تجف الدموع لأنه في النهاية لن ينتهي سوى الوقت!
-ندى سمير شرف